فصل: تفسير الآيات رقم (42- 44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إذ‏)‏‏:‏ بدل من ‏(‏يوم الفرقان‏)‏، أو ظرف لالْتقى، أو لاذكر، محذوفة، والعدوة مثلث العين‏:‏ شاطئ الوادي و‏(‏الدنيا‏)‏ أي‏:‏ القربى، نعت له، و‏(‏القصوى‏)‏‏:‏ تأنيث الأقصى، وكان قياسه‏:‏ قلب الواو ياء، كالدنيا والعليا؛ تفرقة بين الاسم والصفة، فجاء على الأصل، كالقَود، وسُمع فيه‏:‏ «القصيا» على الأصل، وهو شاذ‏.‏ و‏(‏الركب‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏أسفل‏)‏‏:‏ ظرف خبره‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ واذكروا ‏{‏إذ أنتم بالعُدْوَة الدنيا‏}‏ أي؛ بعدوة الوادي القريبة من المدينة، ‏{‏وهم‏}‏ أي‏:‏ كفار قريش، ‏{‏بالعُدْوة القصوى‏}‏ أي‏:‏ البعيدة منها، ‏{‏والركبُ‏}‏ أي‏:‏ العير التي قصدتكم، ‏{‏أسفل منكم‏}‏ أي‏:‏ في مكان أسفل منكم، يعني الساحل، ثم جمع الله بينكم على غير ميعاد، ‏{‏ولو تواعدتُم‏}‏ لهذا الجمع، أنتم وهم للقتال، ثم علمتم حالكم وحالهم ‏{‏لاختلفتم في الميعاد‏}‏؛ هيبة منهم؛ لكثرتهم وقلتكم، لتتحققوا أن ما اتفق لكم من الفتح والظفر ليس إلا صنيعاً من الله تعالى خارقاً للعادة، فتزدادوا إيماناً وشكراً، ‏{‏ولكن‏}‏ الله جمع بينكم من غير ميعاد؛ ‏{‏ليقضي اللَّهُ أمراً كان مفعولا‏}‏؛ سابقاً في الأزل، وهو نصر أوليائه وقهراً أعدائه في ذلك اليوم، لا يختلف عنه ساعة‏.‏ رضي الله عنR>> ‏{‏ليَهلِكَ من هلك عن بينة ويحيى مَنْ حَيَّ عن بينة‏}‏، أي‏:‏ قدَّر ذلك الأمر العجيب ليموت من يموت عن بينة عاينها، ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها، لئلا يكون له حجة ومعذرة، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة، فكل من عاينها ولم يؤمن قامت الحجة عليه‏.‏ أو ليهلك بالكفر من هلك عن بينة وحجة قائمة عليه، ويحيى بالإيمان من حي به عن بينة من ربه، ‏{‏وإنَّ الله لسميع عليمٌ‏}‏ بكفر من كفر وإيمان من أمن، فيجازي كلاًّ على فعله‏.‏ ولعل الجمع بين صفة السمع والعلم؛ لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد‏.‏

واذكر أيضاً ‏{‏إذْ يُريكَهُمُ الله في منامك قليلاً‏}‏، كان صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقويت نفوسهم وتجرؤوا على قتالهم، وكانوا قليلاً في المعنى، ‏{‏ولو أراكَهُمْ كثيراً‏}‏ في الحس ‏{‏لفشلْتُمْ‏}‏ لجبنتم، ‏{‏ولتنازعتم في الأمر‏}‏؛ في أمر القتال، وتفرقت آراؤكم، ‏{‏ولكنَّ الله سلَّم‏}‏ أي‏:‏ أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع؛ ‏{‏إنه عليمٌ بذات الصدور‏}‏ أي‏:‏ يعلم ما يكون فيها من الخواطر وما يغير أحوالها‏.‏

‏{‏و‏}‏ اذكر أيضاً ‏{‏إذْ يُريكموهم‏}‏ أي‏:‏ يريكم الله الكفار، ‏{‏إذ التقيتم في أعينكم قليلاً‏}‏، حتى قال ابن مسعود لمن إلى جنبه‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ فقال‏:‏ أراهم مائة، تثبتاً وتصديقاً لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ويُقلِّلكم في أعينهم‏}‏، حتى قال أبو جهل‏:‏ إن محمداً وأصحابه أَكَلَهُ جزور بفتح الهمزة والكاف جمع آكل، أي‏:‏ قدر ما يكفيهم جذور في أكلهم‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ قللهم في أعينهم قبل التحام القتال؛ ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم، ثم كثّرهم حين رأوهم مثليهم؛ لتفجأهم الكثرة فتبهتهم وتكسر قلوبهم، وهذا من عظائم آيات الله في تلك الوقعة، فإن البصر، وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً، لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد، وإنما يتصور ذلك بصد الله الأبصارَ عن إبصار بعضٍ، مع التساوي في المرئي‏.‏ ه‏.‏

وإنما فعل ذلك في الجهتين؛ ‏{‏ليقضيَ الله أمراً كان مفعولاً‏}‏ أي‏:‏ ليظهر الله أمراً كان سبق به القضاء والقدر، فكان مفعولاً في سابق العلم، لا محيد عنه، ومن شأن الحكمة إظهار الأسباب والعلل، كما أن من شأن القدرة إبراز ما سبق في الأزل، وإنما كرره؛ لاختلاف الفعل المعلل به؛ لأن الأول علة لالتقائهم من غير ميعاد، وهنا لتقليلهم في أعين الكفرة، أو للتنبيه على أن المطلوب من العبد هو النظر إلى سابق القدر، ليخف عليه ما يبرز منه من الشدائد والأهوال، ولذلك قال أثره‏:‏ ‏{‏وإلى الله تُرجع الأمور‏}‏، وإذا كانت الأمور كلها راجعة إلى الله تعالى فلا يسع العبد إلا الرضا والتسليم لكل ما يبرز منها، فكل ما يبرز من عند الحبيب حبيب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الأرواح والأسرار بالعُدوة القريبة من بحر الحقائق، ليس بينها وبينه إلا إظهار أدب العبودية، وهو الذي بين بحر الحقيقة والشريعة، والأنفس وسائر القواطع بالعدوة القصوى منه، والقلب، الذي هو الركب المنازع فيه، بينهما، أسفل من الروح، وفوق مقام النفس، الروح تريد أن تجذبه إليها ليسكن الحضرة، والنفس وجنودها تريد أن تميله إليها ليسكن وطن الغفلة معها، والحرب بينهما سجال تارة ترد عليه الواردات الإلهية، التي هي جند الروح، فتنزل عليه بغتة من غير ميعاد، فتجذبه إلى الحضرة‏.‏

وتارة ترد عليه الخواطر والهواجس الردية فتحطه إلى أرض الحظوظ بغتة، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً في سابق علمه، فإذا أراد الله عناية عبد قلّل عنه مدد الأغيار، حتى يراها كل شيء، وقواه بمدد الأنوار حتى يغيب عنه كُل شيء فتذهب عنه ظلمة الأغيار وإذا أراد الله خذلان عبد قطع عنه مدد الأنوار، وقوى عليه مدد الأغيار، حتى ينحط إلى الدرك الأسفل من النار، والعياذ بالله من سوء القضاء والقدر، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة‏}‏ الآية‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 47‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏بطراً ورئاء‏)‏‏:‏ مصدران في موضع الحال، أي‏:‏ بطرين ومراءين، أو مفعول لأجله، و‏(‏ويصُدُّون‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏بطراً‏)‏؛ على الوجهين، أي‏:‏ صادين، أو للصد‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها آمنوا إذا لَقيتُم فئةً‏}‏؛ جماعة من الكفار عند الحرب ‏{‏فاثبتُوا‏}‏ للقائهم، ولا تفروا، ‏{‏واذكروا الله‏}‏ في تلك الحال سراً داعين له، مستظهرين بذكره، متوجهين لنصره، معتمدين على حوله وقوته، غير ذاهلين عنه بهجوم الأحوال وشدائد الأهوال؛ إذ لا يذكر الله تعالى في ذلك الحال إلا الأبطال من الرجال ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ بالظفر وعظيم النوال‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ألا يشغله شيء عن ذكر الله، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشراشره، فارغ البال، واثقاً بأن لطفه لا ينفعك عنه في جميع الأحوال‏.‏ ه‏.‏

‏{‏وأطيعوا الله ورسوله‏}‏ فيما يأمركم به وينهاكم عنه؛ فإن الطاعة مفتاح الخيرات، ‏{‏ولا تنازعوا‏}‏ باختلاف الآراء كما فعلتم في شأن الأنفال، ‏{‏فتفشلوا‏}‏ وتجبنوا، ‏{‏وتذهب ريحُكم‏}‏ أي‏:‏ ريح نصركم بانقطاع دولتكم، شبه النصر والدولة بهبوب الريح؛ من حيث إنها تمشي على مرادها، لا يقدر أحد أن يردها، وقيل‏:‏ المراد بها الريح حقيقة، فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثه الله من ناحية المنصور تذهب إلى ناحية المخذول‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «نُصِرتُ بالصِّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ»‏.‏ ‏{‏واصبروا إن الله مع الصابرين‏}‏ بالمعونة والكلاءة والنصر‏.‏

‏{‏ولا تكونُوا كالذين خرجُوا من ديارهم‏}‏، يعني‏:‏ أهل مكة، خرجوا ‏{‏بطراً‏}‏ أي‏:‏ فخراً وشَرّاً ‏{‏ورئاء الناس‏}‏؛ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة، وذلك أنهم لما بلغوا الجحفة أتاهم رسولُ أبي سفيان، يقول لهم‏:‏ ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل‏:‏ لا والله حتى نأتي بدراً، ونشرب بها الخمور، وتغني علينا القيان، ونطعم بها من حضرنا من العرب، فتسمع بنا سائر العرب، فتهابُنا، فوافوها، ولكن سُقوا بها كأس المنايا، وناحت عليهم النوائح؛ مما نزل بهم من البلايا، فنهى الله المؤمنين أن يكون أمثالهم بطرين مراءين، وأمرهم أن يكونوا أهل تقوى وإخلاص، لأن النهي عن الشيء امرٌ بضده‏.‏ ‏{‏ويصدّون عن سبيل الله‏}‏ أي‏:‏ خرجوا ليصدوا الناس عن طريق الله، باتباع طريقهم، ‏{‏والله بما يعملون محيطٌ‏}‏ فيجازيهم عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ خاطب الله المتوجهين إليه، السائرين إلى حضرته، وأمرهم بالثبوت ودوام السير، وبالصبر ولزوم الذكر عند ملاقاة القواطع والشواغب، وكل ما يصدهم عن طريق الحضرة، وذلك بالغيبة عنه والاشتغال بالله عنه، وعدم الإصغاء إلى خوضه وتكديره، فمن صبر ظفر، ومن دام على السير وصل، وأمرهم ايضاً بطاعة الله ورسوله، ومن يدلهم على الوصول إليه، ممن هو خليفة عنه في أرضه، وأمرهم بعدم المنازعة والملاججة، فإن التنازع يُوجب تفرق القلوب والأبدان، ويوجب الفشل والوهن، ويذهب بريح النصر والإعزاز، كما أن الوفاق يوجب النصر ودوام العز‏.‏

ونهاهم عن التشبه بأهل الخوض والتكدير، ممن أولع بالطعن والتنكير، بل يكونون على خلافهم مخلصين في أعمالهم وأحوالهم، دالين على الله، داعين إلى طريق الله، يُحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، وهذه صفة أهل الله‏.‏ نفعنا الله بذكرهم‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإذْ زيّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم‏}‏ السيئة، ومن جملتها‏:‏ خروجهم إلى حربك؛ بأن وسوس لهم، ‏{‏وقال لا غالبَ لكم اليومَ من الناس وإني جارٌ لكم‏}‏ قيل‏:‏ قال لهم ذلك مقالة نفسانية، بأن ألقي في رُوعهم، وخيَّل إليهم أنهم لا يُغلبون ولا يطاقون، لكثرة عَددهم وعُددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه في ذلك قربة مجيرة لهم من المكاره‏.‏

‏{‏فلما تراءت الفئتان‏}‏ أي‏:‏ تلاقي الفريقان، ورأى بعضهم بعضاً، ‏{‏نَكصَ على عقبيه‏}‏؛ رجع القهقري، أي‏:‏ بطل كيده، وعاد ما خيل لهم أنه مجير لهم سبب هلاكهم، ‏{‏وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله‏}‏، أي‏:‏ تبرأ منهم وخاف عليهم، وأيس من حولهم، لمّا رأى إمداد المسلمين بالملائكة‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذه المقالة كانت حقيقة لسانِيَّة‏.‏ رُوي أن قريشاً لما اجتمعت على المسير إلى بدر، ذكرت ما بينهم وبين بني كنانة من العداوة، فهموا بالرجوع عن المسير، فمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني، وقال‏:‏ لا غالب لكم اليوم وإني جارٌ لكم، وإني مجيركم من بني كنانة، فلما رأى الملائكة تنزل نكص على عقبيه، وكانت يده في يد الحارث بن هشام، فقال له‏:‏ إلى أين‏؟‏ أتخذلنا في هذه الحالة‏؟‏ فقال‏:‏ إني أرى ما لا ترون، ودفع في صدر الحارث، فانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة، قالوا‏:‏ هزم النَّاسَ سُراقَةُ، فبلغه ذلك، فقال‏:‏ والله ما شعرت بسيركم حتى بلغني هزيمتكم‏!‏ فلما أسلموا علموا أنه الشيطان‏.‏

وعلى هذا، يحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ ‏{‏إني أخافُ الله‏}‏ أي‏:‏ أخاف أن يصيبني مكروهاً من الملائكة، أو يهلكني، ويكون هذا الوقت هو الوقت الموعود، إذ رأى فيه ما لم ير قبله‏.‏ والأول‏:‏ ما قاله الحسن، واختاره ابن حجر‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ أي‏:‏ إني أخاف عذاب الله، وذلك بعد رؤية البأس، ولا ينفع ذلك، ولو كان متحققاً في خوفه ما عصى الله طرفة عين‏.‏ ه‏.‏

وذكر ابن حجر عن البيهقي، عن عليّ كرم الله وجهه، قال‏:‏ هبت ريح شديدة، فلم أر مثلها، ثم هبت ريح شديدة، وأظنه ذكر ثالثة، فكانت الأولى جبريل، والثانية‏:‏ ميكائيل، والثالثة‏:‏ إسرافيل، وكان ميكائيل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها أبو بكر، وإسرافيل عن يساره، وأنا فيها‏.‏ وعن عليّ ايضاً‏:‏ قيل ليَّ ولأبي بكر يوم بدر‏:‏ مع أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يحضر لصف ويشهد القتال‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله شديدُ العقاب‏}‏، يجوز أن يكون من كلام إبليس، وأن يكون مستأنفاً‏.‏

الإشارة‏:‏ عادة الشيطان مع العوام أن يُغريهم على الطعن والإنكار على أولياء الله، وإيذائهم لهم، فإذا رأى غيرة الله على أوليائه نكص على عقبيه، وقال‏:‏ إني منكم بريء؛ إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله، والله شديد العقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ واذكروا ‏{‏إذْ يقول المنافقون‏}‏ من أهل المدينة، أو نفر من قريش كانوا أسلموا وبقوا بمكة، فخرجوا يوم بدر مع الكفار، منهم‏:‏ قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو القبس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن ربيعة بن الأسود، وعلي بن أمية بن خلف، ‏{‏و‏}‏ هم ‏{‏الذين في قلوبهم مرض‏}‏ أي‏:‏ شك؛ لم تطمئن قلوبهم، بل بقي فيها شبهة، قالوا‏:‏ ‏{‏غرَّ هؤلاء دينُهُم‏}‏ أي‏:‏ اغتر المسلمون بدينهم، فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف‏.‏ فأجابهم الحق تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يتوكل على الله فإن الله عزيزٌ‏}‏ أي‏:‏ غالب لا يذل من استجار به، وإن قلَّ، ‏{‏حكيمٌ‏}‏ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل، ويعجز عن دركه الفهم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا عظم اليقين في قلوب أهل التقى أقدموا على أمور عظام، تستغرب العادة إدراكها، أو يغلب العطب فيها، فيقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض‏:‏ غرَّ هؤلاء طريقتهم، ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز لا يُغلبْ، ولا يُغلبْ من انتسب إليه، وتوكل في أموره عليه، حكيم فلا يَخرج عن حكمته وقدرته شيء، أو عزيز لا يُذل من استجار به، ولا يضيع من لاذ به، والتجأ إلى ذماره، حكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره، قاله في الإحياء‏.‏ ثم قال‏:‏ وكل ما ذكر في القرآن من التوحيد هو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار، والتوكل على الواحد القهار‏.‏ ه‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 51‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جواب ‏(‏لو‏)‏ محذوف أي‏:‏ لرأيت أمراً عظيماً، و‏(‏الملائكة‏)‏‏:‏ فاعل ‏(‏يتوفى‏)‏ فلا يوقف على ما قبله، ويرجحه قراءة ابن عامر بالتاء، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير ‏(‏الله‏)‏، و‏(‏الملائكة‏)‏ مبتدأ، و‏(‏يضربون‏)‏‏:‏ خبر، والجملة‏:‏ حال من ‏(‏الذين كفروا‏)‏، والرابط‏:‏ ضمير الواو، وعلى هذا فيوقف على ما قبله، وعلى الأول ‏(‏يضربون‏)‏‏:‏ حال من الملائكة، ‏(‏وذُوقوا‏)‏‏:‏ عطف على ‏(‏يضربون‏)‏ على حذف القول، أي‏:‏ ويقولون ذوقوا‏.‏ و‏(‏ذلك‏)‏‏:‏ مبتدأ، ‏(‏بما قدمت‏)‏‏:‏ خبر، و‏(‏أن الله‏)‏‏:‏ عطف على «ما»؛ للدلالة على أن مقيدة بانضمامه إليه‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ولو ترى‏}‏ يا محمد، أو يا من تصح منكم الرؤية، حال ‏{‏الذين كفروا‏}‏ حين تتوفاهم ‏{‏الملائكةُ‏}‏ ببدر، أو مطلقاً، وهم ‏{‏يضربون وجوهَهُم وأدبارَهم‏}‏، أو حين يتوفاهم الله ويقبض أرواحهم، حال كونهم الملائكة يضربون وجوههم وظهورهم، أو أستاهَهُم، لرأيت أمراً فظيعاً‏.‏ ‏{‏و‏}‏ يقولون لهم‏:‏ ‏{‏ذُوقوا‏}‏ أي‏:‏ باشروا ‏{‏عذابَ الحريق‏}‏ يوم القيامة؛ بشارة لهم بما يلقون من العذاب في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ تكون معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا التهبت النار منها، ‏{‏ذلك‏}‏ العذاب إنما وقع بكم ‏{‏بما‏}‏؛ بسبب ‏{‏قدمت أيديكم‏}‏ أي‏:‏ بما كسبتم من الكفر والمعاصي، ‏{‏وأَنَّ الله ليس بظلام للعبيد‏}‏؛ حتى يعذب بلا سبب، أو يهمل العباد بلا جزاء‏.‏

الإشارة‏:‏ قد ذكر الحق جل جلاله حال الكاملين في العصيان في هذه الآية، وذكر في سورة النحل الكاملين في الطاعة بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ تَتَوَفّاَهُمُ المَلائَكَةُ طَيِّبِين‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏ الآية، وسكت عن المخلطين، ولعلهم يرون طرفاً من هذا أو طرفاً من هذا، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 54‏]‏

‏{‏كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏كدأب‏)‏‏:‏ خبر عن مضمر، أي‏:‏ دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، وهو عملهم وطريقتهم، التي دأبوا فيها، أي‏:‏ داموا عليها ‏(‏ذلك‏)‏؛ مبتدأ، و‏(‏بأنَّ الله‏)‏‏:‏ خبر، وقال سيبويه‏:‏ خبر، أي‏:‏ الأمر ذلك، والفاء سببية‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة ‏{‏آل فِرعون والذين‏}‏ مضوا ‏{‏مِنْ قبلهم‏}‏، ثم فسر دأبهم فقال‏:‏ ‏{‏كفروا بآيات الله‏}‏ الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم‏}‏ كما أخذ هؤلاء، ‏{‏إن الله قوي شديد العقاب‏}‏؛ لا يغلبه في دفعه شيء‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم؛ لأن ‏{‏الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم‏}‏ فيبدلها بالنقمة، ‏{‏حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏ أي‏:‏ حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية، كتغيير قريش حالهم‏:‏ من صلة الرحم، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه، بمعاداة الرسول، والسعي في إراقة دم من تبعه، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها‏.‏ إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة، ‏{‏وأنَّ الله سميعٌ‏}‏ لما يقولون‏:‏ ‏{‏عليم‏}‏ بما يفعلون‏.‏

دأبهم في ذلك التغيير ‏{‏كَدأْب آل فِرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آلَ فرعون‏}‏ لمّا بدلوا وغيَّروا، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم، ‏{‏وكلِّ‏}‏ من الفرق المكذبة ‏{‏كانوا ظالمين‏}‏؛ فأغرقنا آل فرعون، وقتلنا صناديد قريش؛ بظلمهم وما كنا ظالمين‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها‏.‏ فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 59‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏فهم لا يؤمنون‏)‏‏:‏ جملة معطوفة على جملة الصلة، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، ‏(‏والذين عاهدت‏)‏‏:‏ بدل بعضٍ من ‏(‏الذين كفروا‏)‏، و‏(‏فشرد‏)‏‏:‏ جواب ‏(‏إما‏)‏، والتشريد‏:‏ تفريق على اضطراب‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله‏}‏ منزلة ‏{‏الذين كفروا‏}‏، تحقق كفرهم، وسبق به القدر، ‏{‏فهم لا يؤمنون‏}‏ أبداً؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء‏.‏ نزلت في القوم مخصوصين، وهم بنو قريظة، ‏{‏الذين عاهدتَّ منهم‏}‏ أي‏:‏ أخذت عَليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار، ‏{‏ثم يَنقُصُونَ عهدَهم في كل مرةٍ‏}‏ أي‏:‏ يخونون عهدك المرة بعد المرة، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أُحد، وقالوا‏:‏ نسينا، ثم عاهدهم، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعبُ بن الأشرف في ملأ منهم إلى مكة، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مقاتلتهم سبا ذراريهم، ‏{‏وهم لا يتقون‏}‏ شؤم الغدر وتبعته، أو‏:‏ لا يتقون الله في الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم‏.‏

قال تعالى لنبيه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏فإما تَثقفنُهمْ‏}‏ أي‏:‏ مهما تصادفهم وتظفر بهم ‏{‏في الحرب فشرِّدْ بهم‏}‏ أي‏:‏ فرِّق عنك من يُناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم، أو نكِّل بهم ‏{‏من خَلْفَهم‏}‏؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجرُ غيرهم؛ ‏{‏لعلهم يذكّرون‏}‏ أي‏:‏ لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك‏.‏

‏{‏وإما تَخَافَنَّ من قوم‏}‏ معاهدين ‏{‏خيانةً‏}‏ أي‏:‏ نقص عهد بأمارات تلوح لك، ‏{‏فانبِذْ إليهم‏}‏ أي‏:‏ فاطرح إليهم عهدهم ‏{‏على سواءٍ‏}‏ أي‏:‏ على عدل وطريق قصد في العداوة، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ، فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في العلم بنقض العهد، فتستوي معهم في العلم بنقض العهد، ‏{‏إنَّ الله لا يُحب الخائنين‏}‏ أي‏:‏ لا يرضى فعلهم، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال‏.‏

‏{‏ولا تحسبن‏}‏، يا محمد، ‏{‏الذين كفروا سَبقُوا‏}‏ قدرتنا، ونجوا من نكالنا؛ ‏{‏إِنهم لا يُعجزُون‏}‏ أي‏:‏ لا يفوتون في الدنيا والآخرة، فلا يعجزون قدرتنا، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، بل اللَّهُ محيط بهم أينما حلوا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء‏:‏ الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود‏.‏

وقال القشيري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإما تثقفهم في الحرب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم‏.‏ كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه‏.‏ ثم قال عند قوله‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم‏}‏، أي‏:‏ لناقضي العهد، أو لمطلق الكفار، ‏{‏ما استطعتم من قوة‏}‏، أي‏:‏ ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به في الحرب‏.‏ وعن عقبة ابن عامر، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ «ألاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْي» قالها ثلاثاً، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر؛ لأنه أعظم القوى، ‏{‏و‏}‏ أعدوا لهم أيضاً ‏{‏من رباط الخيل‏}‏ اي‏:‏ من الخيل المربوطة للجهاد، وهو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، بمعنى مفعول، أو مصدر، أو جمع ربيط؛ كفصيل وفصال‏.‏

والمراد‏:‏ الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد، وهو من جملة القوة، فهو من عطف الخاص على العام، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب‏.‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏تُرهِبون به‏}‏ أي‏:‏ تخوفون بذلك الأعداء، أو بما ذكر من الخيل المربوطة، ‏{‏عدو الله وعدوَّكم‏}‏ يعني كفار مكة، ‏{‏وآخرين من دُونهم‏}‏ أي‏:‏ من غيرهم من الكفرة، كفارس والروم وسائر الكفرة، ‏{‏لا تعلمونَهم‏}‏، أي؛ لا تعرفونهم اليوم، ‏{‏الله يعلمهم‏}‏، وسيمكنكم منهم، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم، ‏{‏وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله‏}‏، في شأن الاستعداد، وغيره مما يستعان به على الجهاد، ‏{‏يُوف إليكم‏}‏ جزاؤه، ‏{‏وأنتم لا تُظلمون‏}‏ بتضييع عمل أو نقص أجر، بل يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة، بسبعمائة أو أكثر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ وأعدوا لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة، ما استطعتم من قوة، وهو العزم على السير من غير التفات، ومن رباط القلوب في حضرة الحق، تُرهبون به عدو الله، وهو الشيطان، وعدوكم، وهي النفس، وآخرين من دونهم‏:‏ الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس، لا تعلمونهم، الله يعلمهم؛ كالرياء والشرك الخفي، فإنه يدب دبيب النمل، وما تنفقوا من شيء يُوف إليكم أضعافاً مضاعفة، بالعز الدائم والغنى الأكبر، وأنتم لا تُظلمون‏.‏

وقال الورتجبي‏:‏ أَعلم الله المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء الله، وسمى آلة القتال بقوة، وتلك القوة قوة الإلهية التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه، بنعت الفناء في جلاله، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته، ويغريه إلى الدعاء عليهم، ويجعله منبسطاً، حتى يقول في سره‏:‏ إلهي خذهم، فيأخذهم بلحظة، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه، ويسلي قلب وليه بتفريجه من شرور مُعارضيه ومنكريه، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة، كما رمى نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى منكريه حين قال‏:‏ «شاهت الوجوه» وهذا الرمي من الله بقوله‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏‏.‏

سمعت أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان في غزو، وغلب المشركون على المؤمنين، فقيل له‏:‏ لو دعوت الله، فنزل عن دابته وسجد، فهُزم المشركون في لحظة، وأُخذوا جميعاً، وأُسروا، وقُتلوا‏.‏

وأيضاً‏:‏ وأعدوا‏:‏ أي اقتبسوا من الله قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم في محاربتها‏.‏ قال أبو علي الروذباري، في قوله‏:‏ ‏{‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏، فقال‏:‏ القوة هي الثقة بالله، قيل ظاهر الآية‏:‏ إنه الرمي بسهام القِسي‏.‏ وفي الحقيقة‏:‏ رمي سهام الليالي في الغيب؛ بالخضوع والاستكانة، ورمي القلب إلى الحق؛ معتمداً عليه، راجعاً إليه عما سواه‏.‏ ه‏.‏

ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته، لا على السلاح والآلات بقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين‏}‏، أي‏:‏ قواك بقوته الأزلية، ونصرك بنصرته الأبدية، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك‏.‏ ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم، وجمعهم على محبة الله ومحبة رسوله، بعد تباينها بتفريقة الهموم في أودية الامتحان، بقوله‏:‏ ‏{‏وألَّف بين قلوبهم‏}‏‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏تُرهبون‏}‏‏:‏ إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمةٍ ينالها، أو إشفاء صدر عن قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هي العليا‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإنْ جَنَحُوا للسَّلمْ‏}‏ أي‏:‏ وإن مالوا للصلح ‏{‏فاجْنَح لها‏}‏ أي؛ فصالحهم، ومل إلى المعاهدة معهم، وتوكل على الله؛ فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعاً؛ فإن الله يعصمك من مكرهم؛ ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المَكرُ السَّيئُ إِلاَّ بِأَهلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 42‏]‏، ‏{‏إنه هو السميع‏}‏ لأقوالهم، ‏{‏العليم‏}‏ بأحوالهم‏.‏

‏{‏وإنْ يُريدُوا أن يخدعُوك‏}‏ بعد الصلح ‏{‏فإن حَسْبَكَ الله‏}‏ أي‏:‏ فحسبك الله وكافيك شرهم، ‏{‏هو الذي أيدك‏}‏ أي‏:‏ قواك ونصرك ‏{‏بنصرِه‏}‏؛ تحقيقاً، ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏؛ تشريفاً، أو ‏{‏بنصره‏}‏ قدرة، ‏{‏وبالمؤمنين‏}‏ حكمةً، والقدرة والحكمة منه وإليه، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد، وقالوا‏:‏ العطف يقتضي المغايرة‏.‏

‏{‏وألَّفَ بين قلوبهم‏}‏ مع ما كان فيها من زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، ثم صاروا كنفس واحدة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً‏}‏، في إصلاح ما بينهم، ‏{‏ما ألفت بين قلوبهم‏}‏؛ لتناهي عداوتهم إلى حد لو أنفق منفق في

إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم، ‏{‏ولكنَّ الله ألفَ بينهم‏}‏ بقدرته البالغة؛ فإنه المالك للقلوب يُقبلها كيف يشاء‏.‏ ‏{‏إنه عزيز‏}‏ تام القدرة، لا يَعصي عليه ما يريده، ‏{‏حكيم‏}‏ يعلم كيف ينبغي أن يفعل ما يريده‏.‏

قيل‏:‏ إن الآية نزلت في الأوس والخزرج، كان بينهم إِحنٌ وضغائن لا أمد لها، ووقائع هلكت فيها ساداتهم، فأنساهم الله ذلك، وألَّف بينهم بالإسلام، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها؛ بأن ألقت السلاح، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح، وعقدت الرجوع عن هواها، والدؤوب على طاعة مولاها، فالواجب عقد الصلح معها، وتصديقها فيما تأمر به أو تَنْهَى عنه، مما يرد عليها، مع التوكل على مولاها، فإن خدعت بعد ذلك، أو رجعت إلى مألوفها، فالله يكفي أمرها، ويقوي صاحبها على درها، إما بسبب شيخ كامل، أو أخ صالح، فإن الصحبة فيها سر كبير، لا سيما مع أهل الصفاء، الذين صفت قلوبهم، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد، وحسن الظن والاعتقاد، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏حسبك‏)‏‏:‏ مبتدأ، و‏(‏الله‏)‏‏:‏ خبر، ويصح العكس، و‏(‏من اتبعك‏)‏‏:‏ إما عطف على ‏(‏الله‏)‏، أي‏:‏ كفاك الله والمؤمنون، أو في محل نصب على المفعول معه، أو في محل جر؛ عطف على الضمير، على مذهب الكوفيين، أي‏:‏ حسبك وحسب من اتبعك الله، والأول‏:‏ أصح‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حَسْبُكَ الله‏}‏ أي‏:‏ كافيك الله، فلا تلتفت إلى شي سواه، أي‏:‏ لَمّا مَنَنْتُ عليك بائتلاف قلوب المؤمنين في نصرتك، فلا تلتفت إليهم في محل التوحيد، فإني حسبك وحدي بغير معاونة الخلق، فينبغي أن تفرد القدم عن الحدوث في سيرك مني إليَّ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دوني، وإن كان مَلَكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً، ولا ينبغي في حقيقة التوحيد النظر إلى غيري، إنما أيدتك بواسطة المؤمنين، وذَكَرتُهم معي؛ تشريفاً لأمتك، وستراً لقدرتي، وإظهار لكمال حكمتي، وإلا فقدرتي لا يفوتها شيء، ولا تتوقف على شيء؛ «جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل»‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ نزلت الآية تأييداً في غزوة بدر، وقيل‏:‏ أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر رضي الله عنه‏.‏ فنزلت‏.‏ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت في إسلامه‏.‏

الإشارة‏:‏ ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب به ورثته الكرام، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه، وتصحيح عقد التوحيد، والاعتماد على الكريم المجيد‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ التحريض‏:‏ هو الحث على الشيء والمبالغة في طلبه، وهو من الحرض، الذي هو الإشفاء على الهلاك‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي حرّض المؤمنينَ‏}‏ أي‏:‏ حثهم ‏{‏على القتال‏}‏ أي‏:‏ الجهاد‏.‏ ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله‏:‏ ‏{‏إنْ يكنْ منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا‏}‏، وهذا خبر بمعنى الأمر، أي‏:‏ يقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة الألف، وليثبتوا لهم، ولا يصح أن يكون خبراً محضاً؛ إذ لو كان خبراً محضاً لَمَا تخلف في الواقع، ولو في جزئية؛ إذ خبره تعالى لا يخلف‏.‏

قال الفخر الرازي‏:‏ حَسُن هذا التكليف لِما كان مسبوفاً بقوله‏:‏ ‏{‏حسبُكَ الله ومن اتبعك من المؤمنين‏}‏؛ فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلاً؛ لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته‏.‏ ه‏.‏

وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار ‏{‏بأنهم‏}‏؛ بسبب أنهم ‏{‏قوم لا يفقهون‏}‏، أي‏:‏ لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر، فلا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب والترقي في الدرجات، قتلوا أو ماتوا، بخلاف الكفار؛ فلا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان‏.‏

ولمّا كلفهم بهذا في أول الإسلام، وشقَّ ذلك عليهم، خفف عنهم فقال‏:‏ ‏{‏الآن خففَ الله عنكم وعَلِمَ أن فيكم ضعفاً‏}‏؛ فلا يقاوم الواحدُ منكم العشرة، ولا المائةُ الألفَ، ‏{‏فإن يكن منكم مائة صابرة يَغْلِبُوا مائتين، وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين بإذن الله‏}‏؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين‏.‏ وقيل‏:‏ كان فيهم قلة، فلما كثروا خفف عنهم، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد، والضعف‏:‏ ضعف البدن، لا ضعف القلب‏.‏

قال بعض الصحابة رضي الله عنهم‏:‏ لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار، وبقي العشر‏.‏ ولذلك قال تعالى هنا‏:‏ ‏{‏والله مع الصابرين‏}‏ أي‏:‏ بالنصر والمعونة، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده‏؟‏‏.‏

الإشارة‏:‏ ينبغي لأهل التذكير أن يُحرضوا الناس على جهاد نفوسهم، الذي هو الجهاد الأكبر، وإنما كان أكبر؛ لأن العدد الحسي يقابلك وتقابله، بخلاف النفس فإنها جاءت تحت الرماية خفية عدو حبيب، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال، فينبغي للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها، ويهونوا لهم شأنها، فإنَّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمي اليد فيها، فإذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت، وسهل علاجها، وإذا خِفت منها، وسوَّفت لها، طالت عليك وملكتك، ولا بد في جهادها من شيخ يريك مساوئها، ويعينك بهمته على قتلها، وإلاّ بقيتَ في العَنَتِ معها، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها، وهي المعرفة بسيدها وخالقها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 69‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان لنبي أن يكونَ له أسرى‏}‏ يقبضها ‏{‏حتى يُثخِنَ‏}‏ أي‏:‏ يبالغ ‏{‏في الأرض‏}‏؛ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه، ويعز الإسلام ويستولي أهله‏.‏ ‏{‏تُريدون‏}‏ بقبض الأسارى ‏{‏عَرَض الدنيا‏}‏؛ حطامها بأخذ الفداء منهم، ‏{‏والله يُريدُ الآخرة‏}‏ أي‏:‏ يريد لكم ثواب الآخرة، الذي يدوم ويبقى، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه، ‏{‏والله عزيز‏}‏ يغلب أولياءه على أعدائه، ‏{‏حكيم‏}‏ يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها، كما أمر بالإثخان، ومَنَعَ مِنْ أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين، وخيَّر بينه وبين المنِّ لما تحولت الحال، وصارت الغلبة للمؤمنين‏.‏

رُوي أنه عليه الصلاة والسلام أُتِيَ يوم بدر بسَبْعِينَ أسِيراً، فيهم العَبَّاس وعَقيلُ بن أَبي طَالِبٍ، فاستأْذن فِيهِمْ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ قَومُكَ وأهلُك، اسْتَبِقهِمْ، لعلَّ الله يَتُوب عَلَيْهِمْ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ‏.‏ وقال عمر رضي الله عنهم‏:‏ اضْربْ أعْنَاقَهُمْ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْو ذلك رسول الله صلى عليه وسلم، وقال‏:‏ «إنَّ اللَّهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ من كُلّ لين، وإن الله ليُشَدِّدُ قُلوب رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ من الحِجَارَةِ، وإن مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم»، قال‏:‏ ‏{‏فَمَن تَبِعَنىِ فَإِنَّهُ مِنّىِ وَمَن عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 36‏]‏، ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح، قال‏:‏ ‏{‏رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَىلأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏ فخيَّر أصحابه، فأخذوا الفداء، فنزلت، فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر يَبْكِيانِ، فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أخْبِرْنيِ، فَإنْ أجد بُكاء بَكَيْتُ، وإلا تَبَاكيْتُ‏؟‏ فقال‏:‏ «أبكِي على أصْحَابِكَ في أخْذِهُمُ الفداء، ولقد عُرض عليَّ عذابُهم أدْنَى مِنْ هذِهِ الشَّجَرة» لِشَجَرَة قَرِيبَةٍ‏.‏

والآية دليل على أن الأنبياء عليهم السلام يجتهدون، وأنه قد يكون الخطأ، ولكن لا يقرون عليه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ قال القشيري‏:‏ أخَذَ النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر منهم الفداء، وكان ذلك جائزاً لوجوب العصمة، ولكن قتلهم كان أَوْلى‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم، لا على الفداء؛ لأن الله تعالى قد كان خيَّرهم، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين، كما تقدم في سورة آل عمران‏.‏ ثم قال‏:‏ والنبي عليه الصلاة السلام خارج عن ذلك الاستبقاء‏.‏ انظر تمامه في الحاشية‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم، وهم لم يرتكبوا محظوراً‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن العتاب تابع لعلو المقام، فالخواص يُعاتبون على المباح، إن كان فعله مرجوحاً، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم في أمر دنيوي، وهو الفداء، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه، ويدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏تُريدون عَرَض الدنيا‏}‏، وهذا إنما كان في بعضهم، وجُلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

والله تعالى أعلم‏.‏

ثم قال تعالى في تمام عتابهم‏:‏ ‏{‏لولا كتابٌ من الله سبق‏}‏ أي‏:‏ لولا حكم الله سبق إثباته في اللوح المحظوظ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده، أو أنه سيحل لكم الغنائم، أو ما سبق في الأزل من العفو عنكم، ‏{‏لمسّكم فيما أخذتُم‏}‏؛ من الفداء أو من الأسارى، ‏{‏عذابٌ عظيم‏}‏‏.‏ رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال، حيث نزلت‏:‏ «لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ»؛ وذلك لأنه أيضاً أشار بالإثخان‏.‏

ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتُم‏}‏ من الكفار، ومن جملته‏:‏ الفدية، فإنها من الغنائم، ‏{‏حلالاً طيباً‏}‏ أي‏:‏ أكلاً حلالاً، فائدته‏:‏ إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على المتقدمين‏.‏ رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم‏}‏، ووصفة بالطيب؛ تسكيناً لقلوبهم، وزيادة في حليتها‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أُعْطِيتُ خَمْساً لِيَ لَمْ يُعْطَهُنَّ أّحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي‏:‏ أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ» أو كما قال عليه الصلاة والسلام‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مخالفته؛ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ أي‏:‏ يغفر لكم ما فرط، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم؛ توسعةً عليكم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاة، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ‏:‏ لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏أسْرى‏)‏‏:‏ جمع أسير، ويجمع على أسارى‏.‏ وقرئ بهما، و‏(‏خيراً مما‏)‏‏:‏ اسم تفضيل، وأصله‏:‏ أًخْيَر، فاستغنى عنه بخير، وكذلك شر؛ أصله‏:‏ أشر، قال في الكافية‏:‏

وغالباً أغناهم خير وشر *** عن قولهم‏:‏ أخيرُ منه وأشر

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏}‏ الذين أخذتم منهم الفداء‏:‏ ‏{‏إنْ يعلم اللَّهُ في قلوبكم خيراُ‏}‏ من الفداء‏.‏

رُوي أنها نزلت في العباس رضي الله عنه؛ كلَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، وابني أخويه‏:‏ عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال‏:‏ يا محمد، تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت، فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك، وقلت لها‏:‏ لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك، ولعبدِ الله، وعُبيد الله، والفضل، وقُثَم، قال له وما يُدْريكَ‏؟‏ قال‏:‏ أخبرني به ربي تعالى، قال‏:‏ فأشهدُ أنكَ صادِقٌ، وأن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ‏.‏

قال العباس‏:‏ فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله، ولي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم يضرب أي‏:‏ يتجر في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة، وأنا أنتظرُ المغفره مِنْ ربكم، يعني‏:‏ الموعود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَغفِر لَكُم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وإنْ يُريدوا‏}‏؛ الأسارى ‏{‏خيانتك‏}‏؛ بنقض ما عهدوك به، ‏{‏فقد خانوا الله من قبلُ‏}‏؛ بالكفر والمعاصي ‏{‏فأمْكَنَ منهم‏}‏ وأمكنك من ناصيتهم، فقُبِضوا وأُسروا ببدر، ‏{‏والله عليمٌ‏}‏ لا يخفى عليه شيء، ‏{‏حكيمٌ‏}‏ فيما دبر وأمضى‏.‏

الإشارة‏:‏ يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم‏:‏ إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس‏.‏ وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء في الله، والغيببة عما سواه، وثمرته‏:‏ المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته، وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساوئ والعيوب‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا‏}‏ أوطانهم في الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لنصرة الدين بالجهاد، ‏{‏وجاهدوا بأموالهم‏}‏ فصرفوها في الإعداد للجهاد، كالكراع والسلاح، وأنفقوها على المجاريح، ‏{‏وأنفسهم في سبيل الله‏}‏؛ بمباشرة القتال، ‏{‏والذين آوَوْا‏}‏ رسول الله ومن هاجر معه، وواسوهم بأموالهم ‏{‏ونصرُوا‏}‏ دين الله ورسوله، ‏{‏أولئك بعضُهم أولياءُ بعض‏}‏ في التعاون والتناصر، أو في الميراث‏.‏

وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب، حتى نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُولُوا الأَرحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبعضٍ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ثم ذكر من لم يهاجر فقال‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يُهاجِروا ما لكم من ولايتهم من شيء‏}‏؛ لا في النصرة، ولا في الميراث، ‏{‏حتى يُهاجِروا‏}‏ إليكم، ‏{‏وإنِ استنصروكم‏}‏ على المشركين ‏{‏في‏}‏ إظهار ‏{‏الدين فعليكم النصرُ‏}‏ أي‏:‏ فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم، لئلا يستولي الكفر على الإيمان، ‏{‏إلا على قوم‏}‏ كان ‏{‏بينكم وبينهم‏}‏ عهد ‏{‏ميثاق‏}‏، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم‏.‏ فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان، ‏{‏والله بما تعملون بصيرٌ‏}‏ لا يخفى عليه من أوفى ومن نقص‏.‏

‏{‏والذين كفروا بعضُهم أولياءُ بعضِ‏}‏ في الميراث‏.‏ ويدل بمفهومه، على منع التوراث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين‏.‏ ‏{‏إلا تفعلُوه‏}‏ أي‏:‏ إلا تفعلوه ما أُمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر، ‏{‏تكن فتنةٌ في الأرضِ‏}‏؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين، ‏{‏وفسادٌ كبير‏}‏ بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم، أو‏:‏ إلاّ تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق، تكن فتنة في الأرض، فلا يفي أحد بعهد أبداً، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس‏.‏

الإشارة‏:‏ أهل التجريد، ظاهراً وباطناً، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة وآوَوا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم، ونصروا الدين بالتذكير والإرشاد والدلالة على الله، أينما حلوا من البلاد، أولئك بعضهم أولياء بعض في العلوم والأسرار، وكذلك في الأموال‏.‏ فقد قال بعض الصوفية‏:‏ ‏(‏الفقراء‏:‏ لا رزق مقسوم، ولا سر مكتوم‏)‏‏.‏ وهذا في حق أهل الصفاء من المتحابين في الله‏.‏

والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين، فقد نهى الله عن موالاتهم في علوم الأسرار وغوامض التوحيد؛ لأنهم لا يطيقون ذلك؛ لشغل فكرتهم الأسباب أو بالعلوم الرسمية، نعم، إن وقعوا في شبهة أو حيرة، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير في اعتقادهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

قال البيضاوي‏:‏ لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام، أي‏:‏ مهاجرين، وأنصار، ومن آمن ولم يهاجر بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم، بتحصيل مقتضاه من الهجرة، والجهاد، وبذل المال، ونصرة الحق، ووعد لهم الوعد الكريم، فقال‏:‏ ‏{‏لهم مغفرة ورزق كريم‏}‏؛ لا تبعة له، ولا فتنة فيه‏.‏ ثم ألحق بهم في الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال‏:‏

‏{‏والَّذيِنَ ءَامَنُوا مِن بَعدُ وَهَاجَرُوا وَجَهَدُوا مَعَكُم فَأُولَئِكَ مَنكُم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

أي‏:‏ من جملتكم أيها المهاجرين والأنصار‏.‏ ه‏.‏

ثم نسخ الميراث المتقدم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأولُوا الأرحامِ‏}‏ من قرابة النسب، ‏{‏بعضُهم أوْلى ببعض‏}‏ في التوارث من الأجانب، وظاهره‏:‏ توريث ذوي الأرحام، كالخال والعمة وسائر ذوي الأرحام، وبه قال أبو حنيفة، ومنعه مالك، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي في النساء، أو يراد بالأولية‏:‏ غير الميراث، كالنصرة وغيرها‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏في كتابِ الله‏}‏ أي‏:‏ في القرآن، أو اللوح المحفوظ‏.‏ ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ من أمر المواريث وغيرها، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولاً، بالقربة ثانياً، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عوام، وخواص، وخواص الخواص‏.‏ فالعوام‏:‏ هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية‏.‏ والخواص‏:‏ هم الذين صحبوا شيخ التربية، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد‏.‏ وخواص الخواص‏:‏ هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهراً وباطناً، خربوا ظواهرهم، وعمّوا بواطنهم، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد، وذاقوا أسرار التفريد‏.‏ وهم الذين أشار المجذوب إلى مقاومهم بقوله‏:‏

يا قارئين علم التوحيد *** هنا البحور اليَّ تغْبي

هذامقام أهل التجريد *** الواقفين مع ربي

فأهل التجريد، كالمهاجرين والأنصار، وأهل الأسباب من أهل النسبة، كمن لم يهاجر من الصحابة، ومن تجرد بعدُ ودخل معهم، والتحق بهم‏.‏ قال تعالى؛ ق ل تعالى؛ ‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم‏}‏، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له، وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏

سورة التوبة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏براءة‏)‏‏:‏ خبر عن مضمر، أي‏:‏ هذه براءة و‏(‏مِنَ‏)‏‏:‏ ابتدائية، متعلقة بمحذوف، أي‏:‏ واصلة من الله، و‏(‏إلى الذين‏)‏‏:‏ متعلقة به أيضاً، أ ومبتدأ لتخصيصها بالصفة، و‏(‏إلى الذين‏)‏‏:‏ خبر‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ هذه ‏{‏براءة‏}‏ أي‏:‏ تبرئة ‏{‏من الله ورسوله‏}‏ واصلة ‏{‏إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين، لأنهم نكثوا أولاً، إلا أناساً منهم لم ينكثوا، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، وسيأتي استثناؤهم‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله، والمعاهدة بالمسلمين؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول؛ فإنهما برئا منها‏.‏ ه‏.‏

وقال ابن جزي‏:‏ وإنما أسند العهد إلى المسلمين؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفّى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقص أو قارب النقض، وجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد‏.‏ ه‏.‏ وإلى ذلك أشار بقوله‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض أربعةَ أشهرٍ‏}‏ آمنين لا يتعرض لكم أحد، وبعدها لا عهد بيني وبينكم‏.‏ وذكر الطبري‏:‏ أنهم أسلموا كلهم في هذه المدة ولم يسح أحد‏.‏ ه‏.‏

وهذه الأربعة الأشهر‏:‏ شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأنها نزلت في شوال، وقيل‏:‏ هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من الآخر، لأن التبليغ كان يوم النحر؛ لما روي ‏(‏أنها لَمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم، وكان قد بعث أبا بكرٍ رضي الله عنه أميراً على الموسم، فقيل‏:‏ لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ‏؟‏ فقال‏:‏ «لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رَجُلٌ مِنِّي» فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضي الله عنه، سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ، فوقف وَقَال‏:‏ هذا رُغاء ناقَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقف، فلمَّا لَحِقَهُ قال‏:‏ أَمير أو مَأمُورٌ‏؟‏ قال‏:‏ مَأمُورٌ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضي الله عنه، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم، وقَامَ عليٌّ كرم الله وجهه يومَ النَّحر، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فقال‏:‏ يا أَيُّها النّاس، إني رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ إليكم، فقالوا‏:‏ بماذا‏؟‏ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة، ثم قال‏:‏ أمرْتُ بأربَعٍ‏:‏ أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ، وأن يَتِمَّ كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ‏)‏‏.‏

ولعل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ولا يؤدي عني إلا رجل مني» خاص بنقض العهود، لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها‏.‏ قاله البيضاوي مختصراً‏.‏

ثم قال تعالى لأهل الشرك‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم غير مُعجزي الله‏}‏ أي‏:‏ لا تفوتونه، وإن أمهلكم، ‏{‏وأن الله مُخزي الكافرين‏}‏ في القتل والأسر في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ وقد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقاً، أما الشرك الجلي فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان، ولا يدخل أحدٌ مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شيء، ولا يستند إلى شيء، إلا على من بيده ملكوت كل شيء، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب، حتى لا يبقى في نظره إلا الكريم الوهاب، فمن أصرَّ على شوكه الجلي أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل، فلا بد أن يلحقه وباله‏:‏ إما خزي في الدنيا، أو عذاب في الآخرة، كل على ما يليق به‏.‏

وقال القشيري‏:‏ إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ‏.‏ والإشارةُ فيه‏:‏ أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال‏.‏ وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة‏.‏ ه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 4‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏وأذان‏)‏‏:‏ مبتدأ، أو خبر، على ما تقدم في براءة، وهو فَعال بمعنى إفعال؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أي‏:‏ وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس، ورفع «رسوله»؛ إما عطف على ضمير برئ، أو على محل «إن» واسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أي‏:‏ ورسوله كذلك‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وأذانٌ من الله ورسوله‏}‏ واصل إلى الناس، ويكون ‏{‏يومَ الحج الأكبر‏}‏ وهو يوم النحر؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه‏.‏ ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر، عند الجمرات، في حجة الوداع فقال‏:‏ «هذا يوم الحج الأكبر»، وقيل‏:‏ يوم عرفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الحج عرفة» ووصف الحج بالأكبر؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر‏.‏

وذلك الإعلام بأنَّ ‏{‏الله بريء من المشركين ورسولُه‏}‏ عليه الصلاة والسلام كذلك‏.‏ قال البيضاوي؛ ولا تكرار؛ فإن قوله‏:‏ ‏{‏براءة من الله‏}‏‏:‏ إخبار بثبوت البراءة، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏فإن تُبْتُم‏}‏ يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك، ‏{‏فهو‏}‏ أي‏:‏ الرجوع ‏{‏خيرٌ لكم‏}‏، ‏{‏وإن توليتم‏}‏ أي‏:‏ أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر ‏{‏فاعلموا أنكم غيرُ معجزي الله‏}‏؛ لا تفوتونه طلباً، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا، ‏{‏وبَشّرِ الذين كفروا بعذاب أليمٍ‏}‏ في الآخرة‏.‏

ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال‏:‏ ‏{‏إَلا الذين عاهدتُّم‏}‏ أي‏:‏ لكن الذين عاهدتم ‏{‏من المشركين‏}‏، وهم بنو ضمره وبنو كنانة، ‏{‏ثم لم يَنقُضُوكم شيئاً‏}‏ من شروط العهد، ولم ينكثوا، ولم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط، ‏{‏ولم يُظاهروا عليكم أحداً‏}‏ أي‏:‏ لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم، ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى‏}‏ تمام ‏{‏مُدتهم‏}‏، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر‏.‏ ولا تجروهم مجرى الناكثين؛ ‏{‏إن الله يحب المتقين‏}‏، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ من أعظم شؤم الشرك‏:‏ إن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين‏:‏ خاصة وعامة، فيجب على العبد التخلص منه خفياً أو جلياً، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص، حتى يُخلصوه من أنواع الشرك كلها، فإن صدر منه شيء من ذلك فليبادر بالتوبة وأصر على شركه، كان ذلك هوانه وخزيه، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر‏}‏ أي‏:‏ انقضى الأشهر، ‏{‏الحُرم‏}‏ وهي الأربعة التي امهلهم فيها، فمن قال‏:‏ إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهي الحرم المعروفة، زاد فيها شوال، ونقص رجب، وسميت حرماً؛ تغليباً للأكثر، ومن قال‏:‏ إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني، فسميت حرماً؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ‏.‏ وغلط من قال‏:‏ إنها الأشهر الحرم المعلومة؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع؛ لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها ‏{‏فاقتلوا المشركين‏}‏ الناكثين ‏{‏حيث وجدتموهم‏}‏ من حل أو حرم، ‏{‏وخُذوهم‏}‏ أسارى، يقال للأسير‏:‏ أخيذ، ‏{‏واحصروهم‏}‏؛ واحبسوهم ‏{‏واقعدوا لهم كل مرصد‏}‏؛ كل ممر وطريق؛ لئلا ينبسطوا في البلاد، ‏{‏فإن تابوا‏}‏ عن الشرك وآمنوا، ‏{‏وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏؛ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم؛ ‏{‏فخلوا سبيلهم‏}‏ أي؛ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك‏.‏

وفيه دليل على ان تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، بل يقاتل؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه بأهل الردة‏.‏ والآية‏:‏ في معنى قوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكَاةَ‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏

‏{‏أن الله غفور رحيم‏}‏، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب، أي‏:‏ فخلوهم؛ لأن الله قد غفر لهم، ورحمهم بسبب توبتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ فإذا انقضت ايام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم، فإن أذعنوا، وانقادوا، وألقوا السلاح، فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أحد»‏:‏ فاعل يفسره‏:‏ «استجارك»‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإنْ‏}‏ أتاك ‏{‏أحدٌ من المشركين‏}‏ المأمورين بالتعرض لهم، حيثما وجدوا، ‏{‏استجاركَ‏}‏؛ يطلب جوارك، ويستأمنك، ‏{‏فأجِرْهُ‏}‏ أي‏:‏ فأمنهُ؛ ‏{‏حتى يسمع كلامَ الله‏}‏ ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، لعله يُسلم، ‏{‏ثم أبلغه مأمنه‏}‏ أي‏:‏ موضع أمنه إن لم يسلم، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه؛ ‏{‏ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون‏}‏ أي‏:‏ ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان، ولا تدعوهم إليه، فلا بد من إيجارهم، لعلهم يسمعون ويتدبرون؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم‏.‏

الإشارة‏:‏ وإن استجارك أيها العارف أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم‏.‏ ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام، بل يتلطفوا معهم، ويسمعوهم ما يليق بحالهم؛ لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم، إن سبق لهم شيء من الخصوصية‏.‏

وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه‏:‏ لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم، وإلاّ أنكرته البلد؛ لأن البلد أم تغير على غير أبنائها، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم، وإلا أنكرته البلد‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 11‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏ اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏(‏إلا الذين‏)‏‏:‏ محله النصب على الاستثناء، أو جر على البدل من المشركين، أو رفع على الانقطاع، أي‏:‏ لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم، و‏(‏الإل‏)‏‏:‏ القرابة والحِلف، وحذف الفعل في قوله‏:‏ ‏(‏كيف وإن يظهروا عليكم‏)‏؛ للعلم به بما تقدم، أي‏:‏ كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به‏:‏ ‏{‏كيف يكونُ للمشركين عهدٌ عند الله وعندَ رسوله‏}‏ ‏؟‏ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه، ‏{‏إلا الذين عاهدتُّم عند المسجد الحرام‏}‏ قيل‏:‏ هم المستثنون قبلُ‏.‏ وقال ابن اسحاق‏:‏ هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم قريش، وقال مجاهد‏:‏ خزاعة، وفي القولين نظر؛ لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان؛ لأنهم أسلموا في الفتح، والأذان بعده بسنة‏.‏

قال تعالى في شأن من استثنى‏:‏ ‏{‏فما استقاموا لكم‏}‏ على العهد ولم يغدروا، ‏{‏فاستقيمُوا لهم‏}‏ على الوفاء، أي‏:‏ تربصوا بهم وانتظروا أمرهم، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ‏{‏إِن الله يحب المتقين‏}‏ الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا‏.‏

ثم كرر استبعاد وفائهم فقال‏:‏ ‏{‏كيف‏}‏ يصح منهم الوفاء بعهدكم ‏{‏و‏}‏ هم ‏{‏إن يظهرُوا عليكم‏}‏ ويظفروا بكم في وقعة ‏{‏لا يرقُبوا‏}‏ أي‏:‏ لا يراعوا ‏{‏فيكم إلاَّ‏}‏؛ قرابة أو حلفاً، وقيل‏:‏ ربوبية، أي‏:‏ لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه، ‏{‏ولا ذمَّةً‏}‏ أي‏:‏ عهداً، أو حقاً يعاب على إغفاله، ‏{‏يُرضونكم بأفواههم‏}‏؛ بأن يعدوكم بالإيمان والطاعة، والوفاء بالعهد، في الحال، مع استبطان الكفر والغدْر، ‏{‏وتأبى‏}‏ أي‏:‏ تمنع ‏{‏قلوبهم‏}‏ ما تفوه به أفواههم، ‏{‏وأكثرهم فاسقون‏}‏ متمردون، لا عقيدة تزجرهم، ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر؛ لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد، والتعفف عما يجر إلى احدوثة السوء‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

‏{‏اشْتَروا بآيات الله‏}‏ أي‏:‏ استبدلوا بها ‏{‏ثمناً قليلاً‏}‏ أي‏:‏ عرضاً يسيراً، وهو اتباع الأهواء والشهوات، ‏{‏فصدُّوا عن سبيله‏}‏؛ دينه المُوصل إليه، أو بيته بصد الحجاج عنه‏.‏ ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعملون‏}‏ أيْ‏:‏ قبح عملهم هذا، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم ‏{‏لا يرقبون في مؤمن إلاَّ ولا ذمة‏}‏؛ فيكون تفسيراً لعملهم السوء، لا تكريراً‏.‏ وقيل‏:‏ الأول في الناقضين العهد، وهذا خاص بالذين اشتروا، وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم‏.‏

وقوله تعالى؛ ‏{‏في مؤمن‏}‏‏:‏ فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط، وقوله أولاً‏:‏ ‏{‏فيكم‏}‏، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم، فزال هذا الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏في مؤمن‏}‏‏.‏

قاله ابن عطية‏:‏

‏{‏وأولئك هم المعتدون‏}‏ في الشرارة والقبح‏.‏ ‏{‏فإن تابوا‏}‏ عن الكفر، ‏{‏وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين‏}‏؛ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، ‏{‏ونفصّلُ الآيات لقوم يعلمون‏}‏، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ لا ينبغي للخواص أن يثقوا بمحبة العوام، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم، فإن محبتهم على الحروف، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم، وأطماعهم، نكثوا وأدبروا، فللعارف غِنّى بالله عنهم‏.‏ وفي ذلك يقول سيدنا علي كرم الله وجهه‏:‏

مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ *** عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ

وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ *** والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 15‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏وإن نكثُوا أَيمانَهم‏}‏ أي‏:‏ نقضوها ‏{‏من بعدِ عهدهم‏}‏ أي‏:‏ من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها، ‏{‏وطعنوا في دينكم‏}‏ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام، ‏{‏فقاتِلُوا أئمّةَ الكفر‏}‏ أي‏:‏ فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير؛ للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر، فهم أحِقاء بالقتل، وقيل‏:‏ المراد رؤساء المشركين، والتخصيص‏:‏ إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم، ‏{‏إنهم لا أَيمان لهم‏}‏ على الحقيقة، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم، وهو ضعيف؛ لأن المراد، نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ قلت‏:‏ وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية، إذا حنث في حال الكفر، ثم أسلم، فلا يلزمه شيء‏.‏ وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة، أي‏:‏ لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم‏.‏

‏{‏لعلهم ينتهون‏}‏ أي‏:‏ ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، كما هي طريقة أهل الإخلاص لا إيصال الإذاية لهم، أو مقابلة عداوة‏.‏

ثم حضَّ على قتالهم فقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تُقاتِلُون قوماً نَكَثُوا أَيمانهم‏}‏ التي حلفوها للرسول صلىلله عليه وسلم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، ‏{‏وهمّوا بإخراج الرسول‏}‏ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مرّ، ‏{‏وهم بدؤوكم أول مرة‏}‏ بالمعاداة والمقاتلة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بدأهم بالدعوة، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم، ‏{‏أتخشونهم‏}‏ أي‏:‏ أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمري، ‏{‏فالله أحقُّ أن تخشَوه إن كنتم مؤمنين‏}‏؛ فإن قضية الإيمان ألا يُخاف إلا منه‏.‏

ثم وعدهم بالنصر فقال‏:‏ ‏{‏قاتلوهم يُعذِّبْهُم الله بأيديكم ويُخْزِهِمْ‏}‏؛ يُهنهم بالقتل والأسر، ‏{‏وينصركُمْ عليهم‏}‏، فيمكنكم من رقابهم، ويملككم أموالهم ونساءهم، ‏{‏وَيشْفِ صدورَ قومٍ مؤمنين‏}‏، يعني‏:‏ بني خزاعة شفوا صدورهم من بني بكر؛ لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ بطوناً من اليمن قدموا مكة وأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ «أبشروا، فإن الفرج قريب»‏.‏ ‏{‏ويُذْهِبْ غيظَ قلوبهم‏}‏؛ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم، وقد أوفى الله بما وعدهم؛ بفتح مكة وهوازن‏.‏

والآية من المعجزات‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح، فيلتئم مع ما بعده، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة، ونبذ العهد والإعلام بذلك؛ لكونه بعد الفتح، والله أعلم‏.‏ قاله المحشي‏.‏ ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة بعد الفتح، وبعضها؛ من قوله‏:‏ ‏(‏وإن أحد من المشركين‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ إلخ نزل قبل الفتح، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلى الله عليه وسلم‏:‏

«اجعلوا هذه الآية في محل كذا»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله‏:‏ ‏{‏ويتوبُ اللَّهُ على من يشاءُ‏}‏ هدايته، فيهديه للإيمان، ثم يتوب عليه، وقد كان ذلك في كثير منهم‏.‏ ‏{‏والله عليمٌ‏}‏ بما كان يكون، ‏{‏حكيم‏}‏ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته‏.‏

الإشارة‏:‏ من رجع عن طريق القوم، ونقض عهد الأشياخ، ثم طعن في طريقهم، لا يرجى فلاحه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أعني في طريق الخصوص؛ لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء، وقد قال تعالى‏:‏ «من آذى لي ولياً فقد آذنني بالحرب» ومن رجع عنها؛ لضعف ووهن، مع بقاء الاعتقاد والتسليم، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم، بخلاف الأول، فقد تقدم عن القشيري، في سورة آل عمران، أنهم يريدون الشفاعة فيه، فيخلق الله صورة على مثله، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه، فيبقى مع عوام أهل اليمين‏.‏ فانظره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «أم»‏:‏ منقطعة، بمعنى الهمزة؛ للإنكار والتوبيخ على الحسبان، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين، والوليجة‏:‏ البطانة والصحبة‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ أي‏:‏ أظننتم ‏{‏أن تُتْركُوا‏}‏ من غير اختبار، ‏{‏ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدُوا منكم‏}‏ أي‏:‏ ولم يتبين الخلَّص منكم، وهم الذين جاهدوا، من غيرهم، والمراد‏:‏ علمَ ظهور، أي‏:‏ أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره، قال البيضاوي‏:‏ نفى العلم، وأراد نفي المعلوم؛ للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه‏.‏ ه‏.‏ بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم‏.‏

‏{‏ولم يتخِذوا من دون الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وَليجَةً‏}‏؛ بطانة، أي‏:‏ جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يتخذوا من دونهم بطانة، أي أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين، دون موالاة من عاداهم، والتعبير ب ‏(‏لما‏)‏‏:‏ يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع، ‏{‏واللَّهُ خبيرٌ بما تعملون‏}‏‏:‏ تهديد لمن يفعل ذلك‏.‏

الإشارة‏:‏ إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله، والالتفات إلى أهل الغفلة؛ بالصحبة والمودة، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ، والعياذ بالله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله» و«المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» و«مَنْ أَحَبْ قَوْماً حُشِرَ مَعَهم» إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين‏}‏ أي‏:‏ ما صح لهم ‏{‏أن يعمرُوا مساجدَ الله‏}‏ أي‏:‏ شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل‏:‏ هو المراد، وإنما جمع؛ لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد، أي‏:‏ ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم ‏{‏شاهدين على أنفسهم بالكفر‏}‏؛ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي‏:‏ ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين‏:‏ عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، ‏{‏أولئك حَبِطَتْ أعمالُهم‏}‏ في الدنيا والآخرة؛ لما قارنها من الشرك والافتخار بها، ‏{‏وفي النار هم خالدون‏}‏؛ لأجل كفرهم‏.‏

‏{‏إنما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏، أي‏:‏ إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها‏:‏ تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له؛ كحديث الدنيا‏.‏

وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ «إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه» ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال‏:‏ بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله، وأحب من أحبكم‏.‏ ه‏.‏

وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله‏:‏ «وأقام الصلاة وآتى الزكاة» عليه‏.‏ قال البيضاوي‏.‏

‏{‏ولم يخش‏}‏ في أموره كلها ‏{‏إلا الله‏}‏، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، ‏{‏فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين‏}‏، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون؛ فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، ودائراً بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم‏؟‏، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها‏.‏ وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان» ثم تلا الآية‏.‏

الإشارة‏:‏ مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي، لا يدخل الحضرة إلا قلب مفرد، فيه توحيد مجرد، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله، غائب عما سواه، قد رفض الركون إلى الأسباب، وأفراد الوجهة لمسبب الأسباب، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق‏.‏ وإنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام صلاة القلوب، وآتى زكاة النفوس، ولم يراقب أحداً من المخلوقين، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 22‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ السقاية والعمارة‏:‏ مصدران، فلا يشبهان بالجثة، فلا بد من حذف، أي‏:‏ أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو جعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن‏.‏

يقول الحق جل جلاله‏:‏ ‏{‏أجعلتُم‏}‏ أهل ‏{‏سِقَايةَ الحاجِّ، و‏}‏ أهل ‏{‏عمارة المسجدِ الحرام‏}‏ من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم، ‏{‏كمن آمن باللَّهِ واليوم الآخر‏}‏ من أهل الإيمان، ‏{‏وجاهَد في سبيل الله‏}‏؛ لإعلاء كلمة الله، المثبتة أعمالهم، بل ‏{‏لا يستوون عند الله‏}‏ أبداً؛ لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين، إن لم يتوبوا، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين‏.‏

ونزلت الآية في علي كرم الله وجهه والعباس وطلحة بن شيبة، افتخروا، فقال طلحة‏:‏ أنا صاحب البيت، وعندي مفاتحه، وقال العباس‏:‏ أنا صاحب السقاية، وقال علي رضي الله عنه‏:‏ لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال‏:‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ أي‏:‏ الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، وداموا على ذلك، وقيل‏:‏ المراد بالظالمين‏:‏ الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين‏.‏

ثم أكد بقوله‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً‏}‏، وأعلى رتبة، وأكثر كرامة، ‏{‏عند الله‏}‏، ممن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم، ‏{‏وأولئك هم الفائزون‏}‏ بكل خير، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند الله، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك‏.‏

ثم زاد في كرامتهم فقال‏:‏ ‏{‏يُبشرهم ربُّهم برحمةٍ منه‏}‏ أي‏:‏ تقريب، وعطف منه ‏{‏ورضوان وجنات لهم فيها‏}‏ أي‏:‏ في الجنان ‏{‏نعيم مقيم‏}‏؛ دائم، لا نفاد له ولا انقطاع‏.‏ وتنكير المبشر به؛ إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف، حال كونهم ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏، أكد الخلود بالتأبيد؛ لأنه قد يطلق على طُول المكث، ‏{‏إن الله عنده أجر عظيم‏}‏ يُستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له، أو نعيم الدنيا؛ إذ لا قدر له في جانب نعم الآخرة‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يستوي من قعد في وطنه مع عوائده وأسبابه، راكناً إلى عشائره وأحبابه، واقفاً مع هواه، غافلاً عن السير إلى مولاه، مع من هاجر وطنَه وأحبابَه، وخرق عوائده هو أسبابَه، وجاهد نفسه وهواه، سائراً إلى حضرة مولاه، لا يستوون أبداً عند الله؛ لأن هؤلاء مقربون عند الله، والآخرون في محل البعد عن الله، ولو كثر علمهم وعملهم عند الله، شتان بين من همته القصور والحور، وبين من همته الحضور ورفع الستور، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم، وهو الشهود والعيان، لا يحجب عنهم طرفة عين، إن الله عنده إجر عظيم، لا يخطر على قلب بشر لا حرمنا الله من ذلك‏.‏